مستقبل الجماعات الإرهابية في ليبيا
بعد تسع سنوات من الإطاحة بالزعيم الليبي معمر القذافي، ما تزال ليبيا تعيش في ظل فوضى ودون حكومة مركزية، تتنازعها جماعات مسلحة متصارعة، رغم كل الجهود الدولية المبذولة لتحقيق الاستقرار والمصالحة الوطنية، وهو الأمر الذي ألقى بظلاله على قدرة ونطاق انتشار هذه الجماعات خاصة وأن هناك بعض الدول التي ساهمت بصورة أو بأخرى في تمويل ودعم انتشار هذه الجماعات هناك لتحقيق مصالحها،
ويزداد في هذا الإطار المخاوف الإقليمية والدولية مع نمو الجماعات المتطرفة مثل تنظيمي "الدولة الإسلامية" داعش والقاعدة اللذان أصبحا يمتلكان القدرة على الانتشار في كثير من دول جوار ليبيا في الشمال الإفريقي على الضفة الأخرى من البحر المتوسط تجاه القارة الأوروبية.
ويجب الإشارة هنا إلى إن صعود الجماعات المتطرفة في ليبيا يرتبط بصورة مباشرة بطبيعة التدخل الأجنبي والتدخلات العسكرية، والتي قد ساهمت منذ بداية الأزمة الليبية في تغيير نظام الحكم وتفكيك مؤسسات الدولة وأطلقت العنان للتوترات العرقية والطائفية الخاملة، وكثفت المنافسات الإقليميه بتغيير موازين القوى. وقد وفرت هذه التطورات أسبابا خصبة لظهور جماعات إرهابيه جديدة كثيرًا ما تدعمها جهات خارجية فاعلة.
خريطة الجماعات المتطرفة في ليبيا
تزخر ليبيا بمجموعة متنوعة من التنظيمات المتطرفة التي تنتشر بصورة كبيرة في مناطق جغرافية واسعة داخل ليبيا والتي وجدت في الصراع الداخلي هناك فرصة كبيرة للتواجد والانتشار ومن ناحية أخرى اتجاه بعض الدول الإقليمية والدولية إلى السماح بتواجدها وانتشارها بل ودعمها كما هو الحال بالنسبة لتركيا، وفيما يلي أبرز هذه الجماعات:
1) فجر ليبيا
جماعة إسلامية تسيطر على أجزاء واسعة من العاصمة طرابلس وهي التي هاجمت عام 2014 مطار العاصمة واستولت عليه وعلى العاصمة. تعتبر الجماعة موالية لحكومة الوفاق في طرابلس، وتمتلك فجر ليبيا أسلحة ثقيلة بما فيها الطائرات وكانت تسيطر على معظم المدن الساحلية قبل أن تتمكن قوات المشير حفتر من انتزاع السيطرة منها بحيث اقتصرت سيطرتها على المدن الغربية الساحلية بدءً من سرت حتى الحدود مع تونس، وغالبية معظم أفراد هذه الجماعة ينحدرون من مدينة مصراتة لكن عناصرها المتمركزين في مصراتة بدأوا مؤخرًا يبتعدون عن قيادة فجر ليبيا.
2) درع ليبيا
عبارة عن تجمع لمجموعات مسلحة متحالفة تحت هذا الاسم وتعمل في عدة مناطق في ليبيا. أهم هذه المجموعات درع المركز الموالية المؤتمر الوطني في طرابلس، أما القوة الثالثة في درع ليبيا فتقودها الشخصية الإسلامية المعروفة وسام بن حميد الذي كان يقاتل إلى جانب زعيم أنصار الشريعة السابق محمد الزهاوي، والذي قتل في عام 2015، ويتولى بن حميد منصب القائد الميداني لمجلس شورى ثوار بنغازي.
3) قوات مواليةلنوري بو سهمين
الكتيبة 166 التي قاتلت إلى جانب قوات فجر ليبيا "الدولة الإسلامية" في مدينة سرت والمناطق المجاورة لها. وانسحبت الكتيبة من المدينة قبل سقوطها بيد التنظيم في مايو 2015 وهو ما أثار حفيظة حكومة شرق ليبيا وتتهم قيادة الكتيبة بالتواطؤ مع التنظيم. وردت قيادة الكتيبة بأنها انسحبت بسبب عدم تلقيها الدعم من حكومة الوفاق الوطني.
4) تنظيم داعش
ظهر التنظيم عام 2015 معتمدًا إلى حد كبير على تواجد موالين له في مدينة درنة، معقل المتشددين تاريخيًا في شرق ليبيا. وبعد مبايعة "الدولة الإسلامية" في سوريا والعراق استولى على المدينة وأقام إدارة لها. تم إرغام التنظيم على الفرار من المدينة في يوليو 2015، فتوجه إلى مدينة سرت الساحلية ليفرض سيطرته عليها كاملًا، وهناك مخاوف من أن يحول التنظيم المناطق التي يسيطر عليها إلى معسكرات لتدريب "الجهاديين" والتخطيط لهجمات دموية في حوض المتوسط على شاكلة الهجمات الدموية التي نفذها في القارة الاروبية كالذي وقع في مدينة مانشستر البريطانية قبل فترة قصيرة ونفذها شاب ليبي زار بلاده مرارًا، كما إن للتنظيم حضور في مدن النوفلية وسدرا وبن جواد، وحاول في فترة معينة الوصول إلى المنشآت النفطية في رأس لانوف وقد وقعت مواجهات بينه وبين حراس المنشآت النفطية، وتخوض قوات مجلس شورى مجاهدي درنة ولواء "شهداء أبو سليم" المقربة من "أنصار الشريعة" مواجهات مع التنظيم. وتمكنت قوات الجيش الوطني مؤخرًا من طرد التنظيم من مدينة سرت وتواري مقاتلوه عن الانظار.
5) أنصار الشريعة
تعتبر هذه المجموعة امتدادًا لفكر "تنظيم القاعدة" وتتمركز في شرق ليبيا وفي بنغازي ولها حضور بارز منذ الإطاحة بالقذافي عام 2011، ودخلت في مواجهات دموية مع قوات "الجيش الوطني" في بنغازي إلى أن تمكن الجيش الوطني من القضاء على وجوده في بنغازي، كما أن للمجموعة تواجد في مدن درنة وصبراتة. وتتهم المجموعة بالمسؤولية عن إغتيال السفير الامريكي في ليبيا عند الهجوم على القنصلية الامريكية في بنغازي عام 2012 مما حدا بالولايات المتحدة إلى ادراجها في قائمة المنمظمات الإرهابية. وأعلنت الجماعة عن حل نفسها في مايو 2017 في خطوة يراها المراقبون بانها كانت بهدف تفادي استهدافها من قبل الدول الغربية.
6) مجلس شورى ثوار بنغازي
وهو عبارة عن تجمع لمجموعات إسلامية بينها جماعات متطرفة مثل "أنصار الشريعة"، و لواء ثوار 17 فبراير ولواء "راف الله الساحتي" وخاضت هذه القوات صراعًا عنيفًا ضد قوات حفتر في بنغازي إلى أن تم القضاء على وجودها في المدينة. وقد شكلت هذه المجموعات مليشيا جديدة تحت اسم "ألوية الدفاع عن بنغازي" وهي التي قتلت ثلاثة جنود فرنسيين لدى سقوط الطائرة العمودية التي كانوا على متنها في ليبيا، وقد اتهم ما يعرف تنظيم الدولة هذه المجموعات بالإرتباط بقوات "فجر ليبيا" وكفرتها.
7) مجلس شورى مجاهدي درنة
مجموعة من الجماعات الإسلامية المسلحة تشكلت عام 2014 وهي موالية لتنظيم القاعدة وبرزت بقوة على الساحة بعد نجاحها في طرد تنظيم داعش من أغلب أحياء مدينة درنة عام 2015. وتوسعت المواجهات بين الطرفين في أعقاب قيام داعش باغتيال شخصيتين مقربتين من مجلس شورى مجاهدي درنة.
8) مجلس ثوار أجدابيا
جماعة إسلامية مسلحة تتمركز في مدينة أجدابيا الساحلية غرب بنغازي ويقودها محمد الزاوي. أعلنت وكالة "اعماق" التابعة لتنظيم الدولة مرتين أن الزاوي قد بايع التنظيم أوئل عام 2016 لكن المجلس أصدر بيانًا أشار فيه إلى أن المبايعة أمر يخصه ولا صلة للمجلس بهذا الأمر. وتناصب هذه المجموعة خليفة حفتر العداء أيضا ووقعت صدامات بينهما.
الجدير بالذكر هنا أنه على الرغم من كثرة الخرائط التي ترصد توزع المجموعات الإرهابية المتطرفة وانتشارها في ليبيا، إلا أن التحوّل الذي أنتجه توجه الجيش الوطني بقيادة المشير خليفة حفتر لإطلاق عملية "تحرير طرابلس من قبضة المليشيات" في الرابع من أبريل 2019، أعاد تعقيد توزيع تلك المجموعات، بسبب بروز أسماء قيادية، ضمن تلك المجموعات، تقاتل حاليًا في صفوف قوات "حكومة الوفاق" في العاصمة طرابلس ضد قوات الجيش.
متغيرات عديدة
تدور في ليبيا، حاليًّا، معركة للسيطرة على العاصمة طرابلس؛ بين الجيش الوطني الليبي، بقيادة المشير خليفة حفتر، الذي يتمتع بقاعدة شعبية في شرق البلاد، وبين حكومة الوفاق الوطني المعترف بها دوليًّا، والتي يقودها رسميًّا رئيس الوزراء فايز السراج، المدعومة من قبل ميليشيات مختلفة. في هذا الصدد، قال أحمد المسماري، المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي، مؤخرًا، إن اللافتات الإرهابية، التابعة لتنظيمي “داعش” و”القاعدة”، بدأت تظهر في المناطق التي تُسيطر عليها حكومة الوفاق في طرابلس. بل إنه ذهب إلى أبعد من ذلك، متهمًا تركيا بالتدخل في المعركة عبر إرسال متطرفين، من “جبهة النصرة” من سوريا، لدعم حكومة الوفاق الوطني في معركتها ضد الجيش الوطني الليبي.
ومن ثم فإن هناك تعبئة واضحة في كلا المعسكرين نحو طرابلس والتي خلقت فراغًا أمنيًا أتاح الفرصة للجماعات المتطرفة والارهابية للعودة، ولكن أيضًا عن طريق تجنيد العناصر المتحالفة مع الجماعات الأخرى وتنسيق الهجمات ل “إثبات الوجود”. وضمن نفس السياق فإن النزاع بين الفصائل الليبية منح الإرهابيين أيضا فرصة ذهبية للتحرك واعادة تشكيل البقايا الهاربة والخلايا السرية النائمة، ولا يزال خطر قدرة المنظمات الارهابية المتطرفة على السيطرة على أي مكان في ليبيا قائمًا ، ما دامت ليبيا منقسمة، ولم تمتد سلطة الدولة إلى جميع الأراضي. وبالنظر إلى الصراعات الحالية، فإن الإرهاب في ليبيا لن يكون سوى أحد القوى بين العديد من القوى القادرة على إلحاق اضرار حيوية واستراتيجية لليبيا ومحيطها الإقليمي والدولي.
من زاوية أخرى فإن مساحة الأراضي الليبية والتي تفوق مليونًا ونصف المليون كيلومترًا أهم عوامل انتشار التنظيمات الإرهابية. خاصة وأن قرابة 90 في المئة من السكان يتمركزون في المدن الساحلية في الشمال، أما في الجنوب، حيث تغلب الطبيعة الصحراوية والحدود المفتوحة، فتكوّن عشرات المدن الصغيرة والبلدات طوقًا آمنًا لتنقل التنظيمات، قياسًا بحجم سيطرتها على الأرض، لكن القوات المساندة المؤلفة من عناصر قبلية، شاركت الجيش في عملياته القتالية لبسط سيطرته على الجنوب، وتمكنت من نشر وحدات استطلاع وقتال في غالبية المناطق الواقعة على الحدود مع دول الجوار الأفريقي، وهو الأمر الذي حدّ من نشاط تلك التنظيمات، وشنّ عمليات قتالية على بؤرها، وهو ما يشير إلى استمرار خطرها في تلك المناطق، وإن عملية مكافحة الإرهاب التي يخوضها الجيش ينتظرها الكثير من المراحل الأخرى.
مستقبل الجماعات الإرهابية في ليبيا
منذ توقيع اتفاقيتي ترسيم الحدود البحرية بين تركيا وحكومة الوفاق وأخرى تتعلق بالتعاون الأمني والعسكري في نوفمبر 2019 وتشهد ليبيا تنامي في أعداد الجماعات الإرهابية والمرتزقة الذين تم تصديرهم من مناطق الصراع في سوريا والعراق، بالإضافة إلى إرسال المعدات والدعم المالي لهذه الجماعات لمساندة حكومة الوفاق الحليف الأقرب لأنقرة في التأثير على الأوضاع الداخلية الليبية، ولا يتوقف الدور التركي في ليبيا على دعم المليشيات بالأسلحة، حيث دعمت جماعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة، وساعدتها على إرسال قواتها إلى ليبيا، وقدمت تركيا المأوى للإرهابيين الليبيين مثل عبدالحكيم بلحاج، وخالد الشريف، القياديين في الجماعة الليبية المقاتلة، التابعة للقاعدة، وساعدتهما على توسيع قاعدة تمويل الجماعة، وساعدت التنظيمات الإرهابية في إنشاء خطوط اتصالات ومراكز تدريب في ليبيا لإرسال الإرهابيين، وهو ما يوضح سبب تمسك تركيا بمصراتة وطرابلس للاستفادة من الميناءين البحري والجوي لنقلهم إلى ليبيا ومنها إلى أفريقيا وأوروبا.
ويجب الإشارة هنا إلى إن تركيا تسعى لتنفيذ نفس الخطة التي اعتمدتها في سوريا واستنساخها في ليبيا، خاصة وأنها فتحت حدودها بترحاب، ودعم لوجستي ومالي للجماعات الإرهابية المسلحة لدخول سوريا عبر أراضيها ومنافذها الحدودية، بما فيهم (داعش) و(القاعدة)، وانتفخت هذه الجماعات الإرهابية داخل سوريا واحتلت أراضي واسعة تدخلت القوات العسكرية التركية لتحتل هذه الأراضي السورية بحجة مقاومة الإرهاب، وتريد تنفيذ هذا السيناريو في ليبيا، رغم أن ليس لها حدود جغرافية مشتركة مع ليبيا، ولكن تستبدل ذلك بالاعتماد على التمويل المالي القطري لتجنيد الآلاف من المرتزقة السوريين وعناصر (داعش) و(القاعدة).
وتأسيسًا على ذلك فإن تركيا شرعت في عدم الالتزام بقواعد القانون الدولي وبالحظر الدولي الخاص بتوريد الأسلحة إلى هناك كبداية وتمهيد لتسوية الأزمة، ولكن في واقع الأمر فإن مستقبل انتشار الجماعات المسلحة في ليبيا ما هو إلا متغير تابع يخضع بصورة مباشرة لمدى قدرة تركيا على الاستمرار في دعمهم، ومدى قدرتها على تعزيز دورها في الأزمة الليبية.
ختامًا: هناك توجه إقليمي ودولي نحو مجابهة التدخلات التركية في الأزمة الليبية والتي ساهمت بصورة أو بأخرى في تنامي انتشار هذه الجماعات وتسببت أيضًا في عرقلة جهود التسوية، ومن ثم فإن محاصرة الدور التركي من خلال القوى الإقليمية والدولية سوف ينعكس على مستقبل تمويل ونشاط هذه الجماعات والمرتزقة التابعين لها، ومن المحتمل أن تشهد الفترة القادمة تنسيق إقليمي ودولي كبيرين حول هذه الانعكاسات لما لهذه التطورات الداخلية الليبية من تأثير على مستقبل الأمن والسلم الدوليين.