تركيا في ليبيا.. مسارات متشابكة وتهديدات متلاحقة
هناك مسارات متوازية تتحكم في طبيعة الدور التركي في ليبيا؛ حيث تستخدم تركيا الكثير من الأدوات السياسية والاقتصادية والعسكرية التي تمثل وسائل تحقيق نفوذها في الداخل الليبي ومن ثم التأثير في المنطقة، فمنذ عام 2011 وتبحث تركيا عن موطئ قدم لها في ليبيا ما بعد نظام العقيد معمر القذافي، وإن كان هذا التواجد شهد تغيرًا مع اختلاف الأوضاع الداخلية والإقليمية ذات الصلة بها، فقد كان التواجد التركي في ليبيا يستند على البعد الاقتصادي من أجل حماية المصالح التركية الاقتصادية في ليبيا التي تقدر بنحو 15 مليار دولار، ولكن مع تراجع قدرات حكومة الوفاق الليبية -ممثل جماعة الإخوان المسلمين في ليبيا- في مواجهة قوات الجيش الوطني الليبي؛ اتجهت أنقرة إلى تعزيز وجودها سياسيًا وعسكريًا من خلال توقيعها في نوفمبر 2019 لاتفاقية تتعلق بالتعاون في الأمن البحري وترسيم الحدود وتزويد الميليشيات التابعة لحكومة الوفاق بالأسلحة.
التحول في نمط التدخل
بعد تراجع سيطرة جماعة الإخوان المسلمين في مصر والعديد من دول المنطقة حاولت تركيا تقديم الدعم إلى ليبيا باعتبارها تستحوذ على أهمية كبيرة في التأثير على دول المنطقة العربية وبخاصة مصر التي نجحت في التخلص من حكم جماعة الإخوان في عام 2013، ومنذ ذلك الوقت شرعت تركيا في توجيه سياستها نحو تطويق الأمن القومي المصري وهو الأمر الذي أظهر تحولًا في نمط التدخل التركي في ليبيا، واتجهت سياسة تركيا تجاه تقديم الدعم للتنظيمات المسلحة الممثلة في حزب العدالة والبناء المنتمي لجماعة الإخوان المسلمين، وميليشيات مدينة مصراتة في الغرب الليبي، ومن قبل قدمت أنقرة الدعم للجماعات المسلحة في تحالف فجر ليبيا في مواجهة عملية الكرامة التي أطلقها الجيش الوطني الليبي في مايو 2014، بقيادة "خليفة حفتر"، وهو ما تسبب في توتر علاقاتها مع الشرق الليبي.
ومنذ بداية الصراع الداخلي الليبي اتجهت تركيا إلى دعم الجماعات الإرهابية المسلحة هناك بصورة غير مباشرة دون التدخل بصورة مباشرة في التأثير على هذا الصراع، فعلى سبيل المثال أعلن المتحدث باسم الجيش الليبي أحمد المسماري، في أبريل 2019، بأن هناك خطوطًا مفتوحة من جانب تركيا جوًا وبحرًا لتقديم الدعم العسكري للمجموعات العسكرية المتطرفة في طرابلس، بجانب وجود رحلات جوية مباشرة إلى مصراتة لنقل مسلحين من جبهة النصرة في سوريا، خاصة بعد ملاحظة تزايد أعداد المقاتلين الأجانب على الساحة الداخلية الليبية، والذي دلل عليه القبض على طيارين برتغالين في يونيو 2016، وفي مايو 2019، وضمن السياق ذاته تم القبض على سفينتين تركيتين في منطقة البحر المتوسط على متنهما شحنات ضخمة من الأسلحة والذخائر والمعدات العسكرية ومواد صناعة المتفجرات.
الجدير بالذكر هنا أن بعد نجاح الجيش الوطني الليبي في السيطرة على العديد من المناطق التي كانت تابعة وتحت سيطرة ميليشيات حكومة الوفاق، اتجهت تركيا من خلال تبعية حكومة الوفاق لها إلى توقيع اتفاقية للتعاون العسكري والبحري سمح لتركيا بالتواجد بصورة ميدانية في التأثير على مجريات الصراع الداخلي الليبي، وبموجب هذه الاتفاقية نجحت تركيا في إرسال مستشارين عسكريين وجنود لها إلى هناك للمشاركة في العمليات العسكرية بالإضافة إلى زيادة مستوى تدفق المرتزقة التابعين لتركيا من سوريا إلى هناك، وهو الأمر الذي يمثل تحولًا في نمط التدخل التركي في ليبيا.
أهداف عديدة
تهدف تركيا من تدخلها في الأزمة الليبية إلى مزاحمة النفوذ المتنامي لبعض دول المنطقة والعالم في الأزمة، ومواجهة تداعياتها السلبية على نفوذها ومصالحها، ويجب الإشارة هنا إلى أن الأهداف والدوافع التركي من الانخراط في الأزمة الليبية تتشابك فيما بينها فبعضها خاص بالدولة الليبية ومقدراتها الاقتصادية والبعض الآخر يرتبط بالأوضاع الإقليمية والدولية وفي كل الأحوال لا تنفصل هذه الدوافع عن بعضها بل يمكن القول بأنهما امتدادًا لبعضهما البعض.
وضمن هذا السياق تهدف أنقرة إلى الاستفادة من تواجدها في الأزمة الليبية حاليًا وفي المستقبل للاستفادة من مشاريع عمليات إعادة الإعمار خاصة في ظل تراجع الاقتصاد التركي وتعرضه للكثير من المشكلات الداخلية بسبب تراجع سعر صرف الليرة وارتفاع معدلات التضخم، ويأتي هذا التوجه في ظل اعتبار تركيا لليبيا بأنها من أكبر الأسواق التجارية التي تستهدف تركيا تزويدها بالصادرات وإقامة المشروعات الاقتصادية هناك من خلال الاعتماد على أكثر من 120 شركة تركية تنشط بصورة كبيرة هناك.
ومن ناحية أخرى تهدف تركيا إلى ضمان سيطرتها السياسية والعسكرية على ليبيا بعد خروج جماعة الإخوان من الحكم في مصر في عام 2013، كبداية لتعزيز نفوذها في القارة الإفريقية، فتركيا تسعى إلى امتلاك قواعد عسكرية في ليبيا وفق الاتفاق الأمني الموقع مع حكومة الوفاق من جانب ومن جانب آخر وتمتلك قاعدة عسكرية في الصومال، وتسعى إلى امتلاك قاعدة أخرى في جزيرة سواكن السودانية، وهو ما يفسر مساعي تركيا الاستعمارية في هذه المنطقة، ولعل الأمر الواضح من هذه التوجهات هي استمرار المحاولات التركية لتطويق الأمن القومي المصري من جهات عديدة.
وبالإضافة إلى ذلك تهدف تركيا إلى ضمان وجودها في خريطة توزيع الطاقة في منطقة شرق المتوسط خاصة بعد الاكتشافات الحديثة التي تم الإعلان عنها مؤخرًا، وهو الأمر الذي دفعها إلى ترسيم الحدود البحرية بينهما متجاوزة بذلك كافة الاتفاقيات الدولية الخاصة بقواعد ترسيم الحدود البحرية بين دول المنطقة، وفي النهاية فإن الأهداف التركية من وراء تدخلها في الأزمة الليبية لا يختلف عن أهدافها للتدخل في مختلف دول المنطقة في كل من سوريا والعراق وإن اختلفت هذه الأهداف بصورة جزئية وفقًا لطبيعة كل أزمة إلا أن الهدف العام والرئيسي من هذه التدخلات هو الاستمرار في تعزيز نفوذها الإقليمي.
استمرار التهديد
بانتهاج تركيا لمثل هذه السياسات فإنها تسببت في زيادة تأزم الصراعات الداخلية في ليبيا من جانب بالإضافة إلى إيجاد بيئة صراعية جديدة بمظاهر مختلفة في منطقة شرق المتوسط وثرواته المكتشفة حديثًا، ومن ثم اتجهت الدول عديد من الدول إلى محاولة مجابهة الطموحات التركية مثل دول الاتحاد الأوروبي التي تتعارض مصالحها في الأزمة الليبية مع التوجهات التركية، فكل من تركيا والاتحاد الأوروبي يشهدان توترات متصاعدة في ملفات عديدة مثل الملف السوري والموقف من الأكراد وعلاقات تركيا بالتنظيمات الإرهابية المسلحة بالإضافة إلى ملف اللاجئين، ومن ثم فإن استمرار تركيا في سياستها سيؤدي إلى مزيد من التهديد للمصالح الأوروبية.
ومن جهة أخرى فإن الدور التركي المعادي للعديد من دول المنطقة مثل اليونان وقبرص ومصر ساهم في زيادة حدة الانتقادات الموجهة إليها، ويمكن توضيح إصرار تركيا على التدخل في الأزمة الليبية من خلال العزلة التي أضحت عليها في المنطقة العربية بعدما خسر الإخوان الرئاسة بالجزائر وتونس، وأصبحوا منبوذين في السودان بعد الإطاحة بنظام البشير، ومطاردين في الخليج باستثناء قطر؛ فلم تعد هناك ساحة أخرى للسيطرة على السلطة إلا في ليبيا، ومن ثَمَّ فإن الاقتتال حتى النفس الأخير في ليبيا هو الأمل الأخير لأردوغان في تحقيق إيجاد موطئ قدم عربيًّا يستطيع من خلاله تمرير أهدافه.